الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **
قال ابن المنجا: إن الذي حمل إلى خزانة قازان خاصة نفسه ثلاثة آلاف ألف وستمائة ألف سوى ما محق عليهم من التراسيم والبراطيل والاستخراج لغيره من الأمراء والوزراء وغير ذلك بحيث إن الصفي السنجاري استخرج لنفسه أكثر من ثمانين ألف درهم وللأمير إسماعيل مائتي ألف درهم وللوزير نحو أربعمائة ألف وقس على هذا. واستمر بدمشق ورسم أن ينادى في دمشق بأن أهل القرى والحواضر يخرجون إلى أماكنهم: رسم بذلك سلطان الشام حاج الحرمين سيف الدين قبجق. وصار قبجق يركب بالعصابة والشاويشية بين يديه وأجتمع الناس عليه. كل ذلك والقتال والمباينة واقعة بين الأمير أرجواش نائب قلعة دمشق وبين قبجق المذكور ونواب قازان والرسل تمشي بينهم في الصلح وأرجواش يأبى تسليم القلعة له فلله در هذا الرجل! ما كان أثبت جنانه مع تغفل كان فيه حسب ما يأتي ذكره. هذا وقبجق غير مستبد بأمر الشام بل غالب الأمر بها لنواب قازان مثل بولاي وغيره. ثم سافر بولاي من دمشق بمن كان بقي معه من التتار في عشية يوم السبت الرابع من شهر رجب ومعه قبجق وقد أشيع أن قبجق يريد الانفصال عن التتار. وبعد خروجهما استبد أرجواش نائب قلعة دمشق بتدبير أمور البلد. وفي يوم الجمعة سابع عشر شهر رجب أعيدت الخطبة بدمشق إلى الملك الناصر محمد بن قلاوون وللخليفة الحاكم بأمر الله على العادة ففرح الناس بذلك. وكان أسقط اسم الملك الناصر محمد من الخطبة بدمشق من سابع شهر ربيع الآخر فالمدة مائة يوم. ثم نادى أرجواش بكرة يوم السبت بالزينة في البلد فزينت. وأما الملك الناصر محمد بن قلاوون فإن عوده إلى الديار المصرية كان يوم الأربعاء ثاني عشر شهر ربيع الأخر وتبعته العساكر المصرية والشامية متفرقين وأكثرهم عراة مشاة ضعفاء وذاك الذي أوجب تأخرهم عن الدخول مع السلطان إلى مصر وأقاموا بعد ذلك أشهرًا حتى آستقام أمرهم ولولا حصول البركة بالديار المصرية وعظمها ما وسعت مثل هذه الخلائق والجيوش التي دخلوها في جفلة التتار وبعدها فمن الله تعالى بالخيل والعدد والرزق إلا أن جميع الأسعار غلت لا سيما السلاح وآلات الجندية من القماش والبرك وحوائج الخيل وغير ذلك حتى زادت عن الحد. ومما زاد سعر العمائم فإن الجند كان على رؤوسهم في المصاف الخوذ فلما آنكسروا رموا الخوذ تخفيفًا ووضعوا على رؤوسهم المناديل فآحتاجوا لما حضروا إلى مصر إلى شراء العمائم مع أن الملك الناصر أنفق في الجيش بعد عوده واستخدم جمعًا كثيرًا من الجند خوفًا من قدوم غازان إلى الديار المصرية. وتهيأ السلطان إلى لقاء غازان ثانيًا وجهز العساكر وقام بكلفهم أتم قيام على صغر سنه. فلما ورد عليه الخبر بعدم مجيء قازان إلى الديار المصرية تجهز وخرج بعساكره وأمرائه من الديار المصرية إلى جهة البلاد الشامية إلى ملتقى غازان ثانيًا بعد أن خلع على الأمير آقوش الأفرم الصغير بنيابة الشام على عادته وعلى الأمير قرا سنقر المنصوري بنيابة حماة وحلب وكان خروج السلطان من مصر بعساكره في تاسع شهر رجب من سنة تسع وتسعين وستمائة. وسار حتى نزل بمنزلة الصالحية فبلغه عود قازان بعساكره إلى بلاده فكلم الأمراء السلطان في عدم سفره ورجوعه إلى مصر فأبى عن رجوع العسكر وسمع لهم في عدم سفره وأقام بمنزلة الصالحية. وسافر الأمير سلار المنصوري نائب السلطنة بالديار المصرية والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير بالعساكر إلى الشام. ولما سار سلار وبيبرس الجاشنكير إلى جهة الشام تلاقوا في الطريق مع الأمير سيف الدين قبجق والأمير يكتمر السلاح دار والألبكي وهم قاصدون السلطان فعتب الأمراء قبجق ورفقته عتبًا هينًا على عبور قازان إلى البلاد الشامية فاعتذروا أن ذلك كان خوفًا من الملك المنصور لاجين وحنقًا من مملوكه منكوتمر وأنهم لما بلغهم قتل الملك المنصور لاجين كانوا قد تكلموا مع قازان في دخول الشام ولا بقي يمكنهم الرجوع عما قالوه ولا سبيل إلى الهروب من عنده فقبلوا عذرهم وبعثوهم إلى الملك الناصر. فقدموا عليه بالصالحية وقبلوا الأرض بين يديه فعتبهم أيضًا على ما وقع منهم فذكروا له العذر السابق ذكره فقبله منهم وخلع عليهم وعاد السلطان إلى القاهرة وصحبته خواصه والأمير قبجق ورفقته فطلع القلعة في يوم الخميس رابع عشر شعبان. ودخل الأمراء إلى دمشق ومعهم الأمير آقوش الأفرم الصغير نائب الشام وغالب أمراء دمشق وفي العسكر أيضًا الأمير قرا سنقر المنصوري متولي نيابة حماة وحلب ودخل الجميع دمشق بتجمل زائد ودخلوها على دفعات كل أمير بطلبه على حدة وسر الناس بهم غاية السرور وعلموا أن في عسكر الإسلام القوة والمنعة ولله الحمد. وكان آخر من دخل إلى الشام الأمير سلار نائب السلطنة وغالب الأمراء في خدمته حتى الملك العادل زين الدين كتبغا المنصوري نائب صرخد ونزل جميع الجيش بالمرج. وخلع على الأمير أرجواش المنصوري نائب قلعة دمشق باستمراره على عادته وشكروا له الأمراء ما فعله من حفظ القلعة ودخلوا الأمراء إلى دمشق وقلعة دمشق مغلقة وعليها الستائر والطوارف فكلموه الأمراء في ترك ذلك. فلما كان يوم السبت مستهل شهر رمضان أزال أرجواش الطوارف والستائر من على القلعة فأقام العسكر بدمشق أيامًا حتى أصلحوا أمرها ثم عاد الأمير سلار إلى نحو الديار المصرية بجميع أمراء مصر وعساكره في يوم السبت ثامن شهر رمضان وتفرق باقي الجيش كل واحد إلى محل ولايته ودخل سلار إلى مصر بمن معه في ثالث شوال بعد أن آحتفل الناس لملاقاتهم وخرج أمراء مصر إلى بلبيس وخلع السلطان على جميع من قدم من الأمراء رفقة سلار وكانت خلعة سلار أعظم من الجميع. ودام السلطان بقية سنته بالديار المصرية. فلما آستهلت سنة سبعمائة كثرت الأراجيف بالشام ومصر بحركة قازان وكان قازان قد تسمى محمودًا وصار يقال له السلطان محمود غازان. ثم وصلت في أول المحرم من سنة سبعمائة الأخبار والقصاد من الشرق وأخبروا أن قازان قد جمع جموعًا كثيرة وقد ناس في جميع بلاده الغزاة إلى مصر وأنه قاصد الشام فجفل أهل الشام من دمشق وتفرقوا في السواحل وقصدوا الحصون وتشتت غالب أهل الشام إلى البلاد من الفرات إلى غزة فعند ذلك تجهز الملك الناصر وجهز عساكره وتهيأ وخرج بجميع عساكره وأمرائه من القاهرة إلى مسجد التبن في يوم السبت ثالث عشر صفر وسافر حتى قارب دمشق أقام بمنزلته إلى سلخ شهر ربيع الآخر وتوجه هو وعساكره عائدين إلى جهة الديار المصرية بعد أن لاقوا شدة ومشقة عظيمة من كثرة الأمطار والثلوج والأوحال وعدم المأكول بحيث إنه انقطعت الطريق من البرد والمطر وعدم جلب المأكول لهم ولدوابهم حتى إنهم لم يقدروا على الوصول إلى دمشق وكان طلوع السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون إلى قلعه الجبل يوم الاثنين حادي عشر جمادى الأولى. وقبل عود السلطان إلى مصر كان جهز السلطان الأمير بكتمر السلاح دار والأمير بهاء الدين يعقوبا إلى دمشق أمامه فدخلوا دمشق. ثم أشيع بدمشق عود السلطان إلى القاهرة فجفل غالب أهل دمشق منها ونائب الشام لم يمنعهم بل يحسن لهم ذلك. وقيل إن والي دمشق بقي يجفل الناس بنفسه وصار يمر بالأسواق ويقول: في أي شيء أنتم قعود! ولما كان يوم السبت تاسع جمادى الأولى نادت المناداة بدمشق: من قعد فدمه في رقبته ومن لم يقدر على السفر فليطلع إلى القلعة فسافر في ذلك اليوم معظم الناس. وأما قازان فإنه وصل إلى حلب ووصل عساكره إلى قرون حماة وإلى بلاد سرمين وسير معظم جيشه إلى بلاد أنطاكية وغيرها فنهبوا من الدواب والأغنام والأبقار ما جاوز حد الكثرة وسبوا عالمًا كثيرًا من الرجال والنساء والصبيان. ثم أرسل الله تعالى على غازان وعساكره الأمطار والثلوج بحيث إنه أمطر عليهم واحدًا وأربعين يومًا وقت مطر ووقت ثلج فهلك منهم عالم كثير ورجع غازان بعساكره إلى بلادهم أقبح من المكسورين وقد تلفت خيولهم وهلك أكثرها وعجزهم الله تعالى وخذلهم وردهم خائبين عما كانوا عزموا عليه. " ووصل الخبر برجوعهم في جمادى الآخرة وقد خلت دمشق وجميع بلاد الشام من سكانها. ثم في شهر رجب من السنة وصل إلى القاهرة وزير ملك الغرب بسبب الحج واجتمع بالسلطان وبالأمير سلار نائب السلطنة وبالأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير فقابلوه بالإكرام وأنعموا عليه واحترموه فلما كان في بعض الأيام جلس الوزير المغربي المذكور بباب القلعة عند بيبرس الجاشنكير وسلار فحضر بعض كتاب النصارى فقام إليه المغربي يتوهم أنه مسلم ثم ظهر له أنه نصراني فقامت قيامته وقام من وقته ودخل إلى السلطان بحضرة الأمير سلار وبيبرس مدبري مملكة الناصر محمد وتحدث معهم في أمر النصارى واليهود وأنهم عندهم في بلادهم في غاية الذل والهوان وأنهم لا يمكنونهم من ركوب الخيل ولا من آستخدامهم في الجهات السلطانية والديوانية وأنكر على نصارى ديار مصر ويهودها كونهم يلبسون أفخر الثياب ويركبون البغال والخيل وأنهم يستخدمونهم في أجل الجهات ويحكمونهم في رقاب المسلمين ثم إنه ذكر أن عهد ذمتهم قد انقضى من الهجرة النبوية وذكر كلامًا كثيرًا من هذا النوع فأثر كلامه عند القلوب النيرة من أهل الدولة وحصل له قبول من الخاص والعام بسبب هذا الكلام وقام بنصرته الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير وجماعة كثيرة من الأمراء وافقوه على ذلك ورأوا أن في هذا الأمر مصلحة كبيرة لإظهار شعائر الإسلام. فلما كان شهر رجب جمعوا النصارى واليهود ورسموا لهم ألا يستخدموا في الجهات السلطانية ولا عند الأمراء وأن يغيروا عمائمهم فيلبس النصارى عمائم زرقًا وزنانيرهم مشدودة في أوساطهم وأن اليهود يلبسون عمائم صفرًا فسعوا الملتان عند جميع أمراء الدولة وأعيانها وساعدهم أعيان القبط وبذلوا الأموال الكثيرة الخارجة عن الحد للسلطان والأمراء على أن يعفوا من ذلك فلم يقبل منهم شيئًا. وشدد عليهم الأمير بيبرس الجاشنكير الأستادار - رحمه الله - غاية التشديد فإنه هو الذي كان القائم في هذا الأمر عفا الله تعالى عنه وأسكنه الجنة بما فعله فإنه رفع الإسلام بهذه الفعلة وخفض أهل الملتين بعد أن وعد بأموال جمة فلم يفعل. قلت: رحم الله ذلك الزمان وأهله ما كان أعلى هممهم وأشبع نفوسهم! وما أحسن قول المتنبي: # أتى الزمان بنوه في شبيبته** فسرهم وأتيناه على الهرم ثم رسم السلطان الملك الناصر محمد بغلق الكنائس بمصر والقاهرة فضرب على كل باب منها دفوف ومسامير وأصبح يوم الثاني والعشرين من شهر رجب المبارك من سنة سبعمائة وقد لبسوا اليهود عمائم صفرًا والنصارى عمائم زرقًا وإذا ركب أحد منهم بهيمة يكف إحدى رجليه وبطلوا من الخدم السلطانية وكذلك من عند الأمراء وأسلم لذلك جماعة كثيرة من النصارى منهم: أمين الملك أعبد الله بن الغنام مستوفي الصحبة وغيره. ثم رسم السلطان أن يكتب بذلك في جميع بلاده من دنقلة إلى الفرات. فأما أهل الإسكندرية لما وصل إليهم المرسوم سارعوا إلى خراب كنيستين عندهم وذكروا أنهما مستجدتان في عهد الإسلام ثم داروا إلى دورهم فما وجدوه أعلى على من جاورها من دور المسلمين هدموه وكل من كان جاور مسلمًا في حانوت أنزلوا مصطبة حانوته بحيث يكون المسلم أرفع منه وفعلوا أشياء كثيرة من هذا وأقاموا شعار الإسلام كما ينبغي على العادة القديمة ووقع ذلك بسائر الأقطار لا سيما أهل دمشق فإنهم أيضًا أمعنوا في ذلك. وعملت الشعراء في هذا المعنى عدة مقاطيع شعر ومما قاله الشيخ شمس الدين الطيبي: تعجبوا للنصارى واليهود معًا والسامريين لما عمموا الخرقا كأنما بات بالأصباغ منسهلًا نسر السماء فأضحى فوقهم ذرقا ومما قاله الشيخ علاء الدين كاتب أبن وداعة المعروف بالوداعي في المعنى وأجاد: لقد ألزموا الكفار شاشات ذلة تزيدهم من لعنة الله تشويشا فقلت لهم ما ألبسوكم عمائمًا ولكنهم قد ألبسوكم براطيشا وفيها في تاسع ذي القعدة وصل إلى القاهرة من حلب الأمير أنس يخبر بحركة التتار وأن التتار قد أرسلوا أمامهم رسلًا وأن رسلهم قد قاربت الفرات ثم وصلت الرسل المذكورة بعد ذلك بمدة إلى الديار المصرية في ليلة الاثنين خامس عشر ذي الحجة وأعيان القصاد ثلاثة نفر: قاضي الموصل وخطيبها كمال الدين بن بهاء الدين بن كمال الدين بن يونس الشافعي وآخر عجمي وآخر تركي. ولما كان عصر يوم الثلاثاء جمعوا الأمراء والمقدمين إلى القلعة وعملت الخدمة ولبسوا المماليك أفخر الثياب والملابس وبعد العشاء الأخيرة أوقدوا الشموع نحوًا من ألف شمعة ثم أظهروا زينة عظيمة بالقصر ثم أحضروا الرسل وحضر القاضي بجملتهم وعلى رأسه طرحة فقام وخطب خطبة بليغة وجيزة وذكر آيات كثيرة في معنى الصلح وآتفاق الكلمة ورغب فيه ثم إنه دعا للسلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون ومن بعده للسلطان محمود غازان ودعا للمسلمين والأمراء وأدى الرسالة. ومضمونها: إنما قصدهم الصلح ودفعوا إليهم كتابًا مختومًا من السلطان غازان فأخذ منهم الكتاب ولم يقرؤوه تلك الليلة وأعيد الرسل إلى مكانهم. فلما كان ليلة الخميس فتح الكتاب وقرىء على السلطان وهو مكتوب بالمغلي وكتم الأمر. فلما كان يوم الخميس ثامن عشر ذي الحجة حضر جميع الأمراء والمقدمين وأكثر العسكر وأخرج إليهم الكتاب وقريء عليهم وهو مكتوب بخط غليظ في نصف قطع البغدادي ومضمونه: " وسبب ذلك أن بعض عساكركم أغاروا على ماردين وبلادها في شهر رمضان المعظم قدره الذي لم تزل الأمم يعظمونه في سائر الأقطار وفيه تغل الشياطين وتغلق أبواب النيران فطرقوا البلاد على حين غفلة من أهلها وقتلوا وسبوا وفسقوا وهتكوا محارم الله بسرعة من غير مهلة وأكلوا الحرام وارتكبوا الآثام وفعلوا ما لم تفعله عباد الأصنام فأتونا أهل ماردين صارخين مسارعين ملهوفين مستغيثين بالأطفال والحريم وقد آستولى عليهم الشقاء بعد النعيم فلاذوا بجنابنا وتعلقوا بأسبابنا ووقفوا موقف المستجير الخائف ببابنا فهزتنا نخوة الكرام وحركتنا حمية الإسلام فركبنا على الفور بمن كان معنا ولم يسعنا بعد هذا المقام ودخلنا البلاد وقدمنا النية وعاهدنا الله تعالى على ما يرضيه عند بلوغ الأمنية وعلمنا أن الله تعالى لا يرضى لعباده الكفر بأن يسعوا في الأرض فسادًا والله لا يحب الفساد وأنه يغضب لهتك الحريم وسبي الأولاد فما كان إلا أن لقيناكم بنية صادقة وقلوب على الحمية للدين موافقة فمزقناكم كل ممزق والذي ساقنا إليكم هو الذي نصرنا عليكم وما كان مثلكم إلا كمثل قرية كانت آمنة مطمئنة - الآية - فوليتم الأدبار واعتصمتم من سيوفنا بالفرار فعفونا عنكم بعد آقتدار ورفعنا عنكم حكم السيف البتار وتقدمنا إلى جيوشنا ألا يسعوا في الأرض كما سعيتم وأن ينشروا من العفو والعفاف ما طويتم ولو قدرتم ما عفوتم ولا عففتم ولم نقلدكم منة بذلك بل حكم الإسلام في قتال البغاة كذلك وكان جميع ما جرى في سالف القدم ومن قبل كونه جرى به في اللوح القلم ثم لما رأينا الرعية تضرروا بمقامنا في الشام لمشاركتنا لهم في الشراب والطعام وما حصل في قلوب الرعية من الرعب عند معاينة جيوشنا التي هي كمطبقات السحب فأردنا أن نسكن تخوفهم بعودتنا من أرضهم بالنصر والتأييد والعلو والمزيد فتركنا عندهم بعض جيوشنا بحيث تتونس بهم وتعود في أمرها إليهم ويحرسونهم من تعدي بعضهم على بعض بحيث إنكم ضاقت بكم الأرض إلى أن يستقر جأشكم وتبصروا رشدكم وتسيروا إلى الشام من يحفظه من أعدائكم المتقدمين وأكرادكم المتمردين وتقدمنا إلى مقدمي طوامين جيوشنا أنهم متى سمعوا بقدوم أحد منكم إلى الشام أن يعودوا إلينا بسلام فعادوا إلينا بالنصر المبين والحمد لله رب العالمين. والآن فإنا وإياكم لم نزل على كلمة الإسلام مجتمعين وما بيننا ما يفرق كلمتنا إلا ما كان من فعلكم بأهل ماردين وقد أخذنا منكم القصاص وهو جزاء كل عاص فنرجع الآن في إصلاح الرعايا ونجتهد نحن وإياكم على العدل في سائر القضايا فقد آنضرت بيننا وبينكم حال البلاد وسكانها ومنعها الخوف من القرار في أوطانها وتعذر سفر التجار وتوقف حال المعايش لانقطاع البضائع والأسفار ونحن نعلم أننا نسأل عن ذلك ونحاسب عليه وأن الله عز وجل لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وأن جميع ما كان وما يكون في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. وأنت تعلم أيها الملك الجليل أنني وأنت مطالبون بالحقير والجليل وأننا مسؤولون عما جناه أقل من وليناه وأن مصيرنا إلى الله وإنا معتقدون الإسلام قولًا وعملًا ونية عاملون بفروضه في كل وصية. وقد حملنا قاضي القضاة علامة الوقت حجة الإسلام بقية السلف كمال الدين موسى بن محمد أبا عبد الله أعزه الله تعالى مشافهة يعيدها على سمع الملك والعمدة عليها فإذا عاد من الملك الجواب فليسير لنا هدية الديار المصرية لنعلم بإرسالها أن قد حصل منكم في إجابتنا للصلح صدق النية ونهدي إليكم من بلادنا ما يليق أن نهديه إليكم والسلام الطيب منا عليكم. إن شاء الله تعالى. فلما سمع الملك الناصر الكتاب استشار الأمراء في ذلك وبعد أيام طلبوا قاضي الموصل أعني الرسول المقدم ذكره من عند قازان وقالوا له: أنت من أكابر العلماء وخيار المسلمين وتعلم ما يجب عليك من حقوق الإسلام والنصيحة للدين فنحن ما نتقاتل إلا لقيام الدين فإن كان هذا الأمر قد فعلوه حيلة ودهاء فنحن نحلف لك أن ما يطلع على هذا القول أحد من خلق الله تعالى ورغبوه غاية الرغبة فحلف لهم بما يعتقده أنه ما يعلم من قازان وخواصه غير الصلح وحقن الدماء ورواج التجار ومجيئهم وإصلاح الرعية. ثم إنه قال لهم: والمصلحة أنكم تتفقون وتبقون على ما أنتم عليه من الاهتمام بعدوكم وأنتم فلكم عادة في كل سنة تخرجون إلى أطراف بلادكم لأجل حفظها فتخرجون على عادتكم فإن كان هذا الأمر خديعة فيظهر لكم فتكونون مستيقظين وإن كان الأمر صحيحًا فتكونون قريبين منهم فينتظم الصلح وتحقن الدماء فيما بينكم. فلما سمعوا كلامه رأوه ما فيه غرض وهو مصلحة فشرعوا ليعينوا من يروح في الرسالة فعينوا جماعة منهم الأمير شمس الدين محمد بن التيتي والخطيب شمس الدين الجوزي خطيب جامع آبن طولون فتشفع آبن الجوزي حتى تركوه وعينوا القاضي عماد الدين بن السكري خطيب جامع الحاكم وهو ناظر دار العدل بالديار المصرية وشخصًا أمير آخور من البرجية. ثم إن السلطان أخذ في تجهير أمرهم إلى ما يأتي ذكره. ثم استقر السلطان في سنة إحدى وسبعمائة بالأمير عز الدين أيبك البغدادي المنصوري أحد الأمراء البرجية في الوزارة عوضًا عن شمس الدين سنقر الأعسر وجلس في قلعة الجبل بخلعة الوزارة وطلع إليه جميع أرباب الدولة وأعيان الناس. وأيبك هذا هو الرابع من الوزراء الأمراء الأتراك بالديار المصرية الذين كان تضرب على أبوابهم الطبلخاناه على قاعدة الوزراء بالعراق زمن الخلفاء فأولهم الأمير علم الدين سنجر الشجاعي المنصوري ثم ولي بعده الأمير بدر الدين بيدرا ولما ولي بيدرا نيابة السلطنة أعيد الشجاعي وبعده آبن السلعوس وليس هما من العدد ثم الخليلي وليس هو من العدد ثم بعد الخليلي ولي الأمير سنقر الأعسر الوزر وهو الثالث. ثم بعده أيبك هذا وهو الرابع. وكان الوزير يوم ذاك في رتبة النيابة بالديار المصرية ونيابة السلطنة كانت يوم ذاك دون السلطنة. انتهى. وفي يوم الأحد تاسع عشر المحرم من سنة إحدى وسبعمائة رسم السلطان لجميع الأمراء والمقدمين بمصر والقاهرة أن يخرجوا صحبة السلطان إلى الصيد نحو العباسة وأن يستصحبوا معهم عليق عشرة أيام وسافر السلطان بأكثر العسكر والجميع بعدتهم في بكرة يوم الاثنين في العشرين من المحرم. ونزل إلى بركة الحجاج وتبعه جميع الأمراء والمقدمين والعساكر وبعد سفره سيروا طلبوا القضاة الأربعة فتوجهوا إليه وآجتمعوا بالسلطان في بركة الحجاج وعادوا إلى القاهرة ثم شرعوا في تجهيز رسل قازان وتقدم دهليز السلطان إلى الصالحية ودخل السلطان والأمراء إلى البرية بسبب الصيد. فلما كان
فخلع على جميع الأمراء والمقدمين وكان عدة ما خلع أربعمائة وعشرين خلعة وكان الرسل قد سفروهم من القاهرة وأنزلوهم بالصالحية حتى إنهم يجتمعون بالسلطان عند حضوره من الصيد. فلما حضر الأمراء قدام السلطان بالخلع السنية وتلك الهيئة الجميلة الحسنة أذهل عقول الرسل مما رأوا من حسن زي عسكر الديار المصرية بخلاف زي التتار وأحضروا الرسل في الليل إلى الدهليز إلى بين يدي السلطان وقد أوقدوا شموعًا كثيرة ومشاعل عديدة وفوانيس وأشياء كثيرة من ذلك تتجاوز عن الحد بحيث إن البرية بقيت حمراء تتلهب نورًا ونارًا فتحدثوا معهم ساعة ثم أعطوهم جواب الكتاب وخلعوا عليهم خلع السفر وأعطوا لكل واحد من الرسل عشرة آلاف درهم وقماشًا وغير ذلك. ونسخة الكتاب المسير إليهم صورته: " وأما قول الملك ابن الملك الذي هو من أعظم القان فيقول قولًا يقع عليه الرد من قريب ويزعم أن جميع ما هو عليه من علمنا ساعة واحدة يغيب ولو يعلم أنه لو تقلب في مضجعه من جانب إلى جانب أو خرج من منزله راجلًا أو راكبًا كان عندنا علم من ذلك في الوقت القريب أو يتحقق أن أقرب بطائنه إليه هو العين لنا عليه وإن كثر ذلك لديه. ونحن تحققنا أن الملك بقي عامين يجمع الجموع وينتصر بالتابع والمتبوع وحشد وجمع من كل بلد وآعتضد بالنصارى والكرج والأرمن واستنجد بكل من ركب فرسًا من فصيح وألكن وطلب من المسومات خيولًا وركاب وكثر سوادًا وعدد أطلاب ثم إنه لما رأى أنه ليس له بجيشنا قبل في المجال عاد إلى قول الزور والمحال والخديعة والاحتيال وتظاهر بدين الإسلام وآشتهر به في الخاص والعام والباطن بخلاف ذلك حتى ظن جيوشنا وأبطالنا أن الأمر كذلك فلما التقينا معه كان معظم جيشنا يمتنع من قتاله ويبعد عن نزاله ويقول: لا يجوز لنا قتال المسلمين ولا يحل قتل من يتظاهر بهذا الدين! فلهذا حصل منهم الفشل وبتأخرهم عن قتالكم حصل ما حصل وأنت تعلم أن الدائرة كانت عليك. وليس يرى من أصحابك إلا من هو نادم أو باكي أو فاقد عزيز عنده أو شاكي والحرب سجال يوم لك ويوم عليك وليس ذلك مما تعاب به الجيوش ولا تقهر وهذا بقضاء الله وقدره المقدر. وأما قول الملك إنه لما آلتقى بجيشنا مزقهم كل ممزق فمثل هذا القول ما كان يليق بالملك أن يقوله أو يتكلم به وهو يعلم وإن كان ما رأى بل يسأل كبراء دولته وأمراء عساكره عن وقائع جيوشنا ومراتع سيوفنا من رقاب آبائه وأجداده وهي إلى الآن تقطر من دمائهم وإن كنت نصرت مرة فقد كسرت آباؤك مرارًا وإن كان جيشك قد داس أرضنا مرة فبلادكم لغارتنا مقام ولجيوشنا قرار وكما تدين تدان. وأما قول الملك: إنه ومن معه آعتقدوا الإسلام قولًا وفعلًا وعملًا ونية فهذا الذي فعلته ما فعله من هو متوجه إلى هذه البنية أعني الكعبة المضية فإن الذي جرى بظاهر دمشق وجبل الصالحية ليس بخفي عنك ولا مكتوم وليس هذا هو فعل المسلمين ولا من هو متمسك بهذا الدين فأين وكيف وما الحجة! وحرم البيت المقدس تشرب فيه الخمور وتهتك الستور وتفتض البكور ويقتل فيه المجاورون ويستأسر خطباؤه أو المؤذنون ثم على رأس خليل الرحمن تعلق الصلبان وتهتك النسوان ويدخل فيه الكافر سكران فإن كان هذا عن علمك ورضاك فواخيبتك في دنياك وأخراك ويا ويلك في مبدئك ومعادك وعن قليل يؤذن بخراب عمرك وبلادك وهلاك جيشك وأجنادك وإن كنت لم تعلم بذلك فقد أعلمناك فاستدرك ما فات فليس مطلوبًا به سواك وإن كنت كما زعمت أنك على دين الإسلام وأنت في قولك صادق في الكلام وفي عقدك صحيح النظام فآقتل الطوامين الذين فعلوا هذه الفعال وأوقع بهم أعظم النكال لنعلم أنك على بيضاء المحجة وكان فعلك وقولك أبلغ حجة ولما وصلت جيوشنا إلى القاهرة المحروسة وتحققوا أنكم تظاهرتم بكلمة الإخلاص وخدعتم باليمين والإيمان وانتصرتم على قتالهم بعبدة الصلبان آجتمعوا وتأهبوا وخرجوا بعزمات محمدية وقلوب بدرية وهمم علية عند الله مرضية وجدوا السير في البلاد ليتشفوا منكم غليل الصدور والأكباد فما وسع جيشكم إلا الفرار وما كان لهم على اللقاء صبر ولا قرار فآندفعت عساكرنا المنصورة مثل أمواج البحر الزخار إلى الشام يقصدون دخول بلادكم ليظفروا بنيل المرام فخشينا على رعيتكم تهلك وأنتم تهربون ولا تجدون إلى النجاة مسلك فأمرناهم بالمقام ولزوم الأهبة والاهتمام ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا. وأما ما تحمله قاضي القضاة من المشافهة فإنا سمعناه ووعيناه وتحققنا تضمنته مشافهة ونحن نعلم علمه ونسكه ودينه وفضله المشهور وزهده في دار الغرور ولكن قاضي القضاة غريب عنكم بعيد منكم لم يطلع على بواطن قضاياكم وأموركم ولا يكاد يظهر له خفي مستوركم فإن كنتم تريدون الصلح والإصلاح وبواطنكم كظواهركم متتابعة في الصلاح وأنت أيها الملك طالب الصلح على التحقيق وليس في قولك مين ولا يشوبه تنميق نقلدك سيف البغي ومن سل سيف البغي قتل به ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله فيرسل إلينا من خواص دولتك رجل يكون منكم ممن إذا قطع بأمر وقفتم عنده أو فصل حكمًا انتهيتم إليه أو جزم أمرًا عولتم عليه يكون له في أول دولتكم حكم وتمكين وهو فيما يعول عليه ثقة أمين لنتكلم معه فيما فيه الصلاح لذات البين وإن لم يكن كذلك عاد بخفي حنين. وأما ما طلبه الملك من الهدية من الديار المصرية فليس نبخل عليه ومقداره عندنا أجل مقدار وجميع ما يهدى إليه دون قدره وإنما الواجب أن يهدي أولًا من آستهدى لتقابل هديته بأضعافها ونتحقق صدق نيته وإخلاص سريرته ونفعل ما يكون فيه رضا الله عز وجل ورضا رسوله في الدنيا والآخرة لعل صفقتنا رابحة في معادنا غير خاسرة. والله تعالى الموفق للصواب ". انتهى. ثم سافر القصاد المذكورون وعاد السلطان من الصيد في ثالث صفر إلى بركة الحجاج وآلتقى أمير الحاج وهو الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار أمير جاندار وصحبته ركب الحاج والمحمل السلطاني فنزل عنده السلطان وخلع عليه ثم ركب وتوجه حتى صعد قلعة الجبل عصر النهار ودخل عقيب دخوله المحمل والحجاج وشكر الحاج من حسن سيرة بكتمر المذكور مع سرعة مجيئه بخلاف العادة فإن العادة كانت يوم ذاك دخول المحمل في سابع صفر وقبل ذلك وبعد ذلك. وعمل بكتمر في هذه السفرة من الخيرات والبر والخلع على أمراء الحجاز وغيرهم شيئًا كثيرًا قيل: إن جملة ما أنفقه في هذه السفرة خمسة وثمانون ألف دينار مصرية تقبل الله تعالى منه. ثم في صفر هذا وصل الخبر إلى السلطان بأن قازان على عزم الركوب وقصد الشام وأن مقدم عساكره الأمير بولاي قد قارب الفرات وأن الذي أرسله من الرسل خديعة. فعند ذلك شرع السلطان في تجهيز العساكر وتهيأ للخروج إلى البلاد الشامية ثم في أثناء ذلك ورد على السلطان قاصد الأمير كتبغا المنصوري نائب صرخد - وكتبغا هذا هو الملك العادل المخلوع بالملك المنصور لاجين المقدم ذكرهما - وأخبر أنه وقع بين حماة وحمص وحصن الأكراد برد وفيه شيء على صورة بني آدم من الذكور والإناث وصور قرود وغير ذلك فتعجب السلطان وغيره من ذلك.
|